الفراشة أصبح فتيات Ftayat.com : يتم تحديث الموقع الآن ولذلك تم غلق النشر والمشاركات لحين الانتهاء من اتمام التحديث ترقبوا التحديث الجديد مزايا عديدة وخيارات تفاعلية سهلة وسريعه.
فتيات اكبر موقع وتطبيق نسائي في الخليج والوطن العربي يغطي كافة المجالات و المواضيع النسائية مثل الازياء وصفات الطبخ و الديكور و انظمة الحمية و الدايت و المكياج و العناية بالشعر والبشرة وكل ما يتعلق بصحة المرأة.
KaDi
16-12-2022 - 12:25 am
  1. المكان : الرياض - حي الصحافة - الدور الثاني من منزل الذكرى الحزينة

  2. الزمان : عصر السبت - السادس من شهر جمادى الاخر عام ه

  3. يا نائم الليل مسرورا بأولهِ

  4. إن (المباحث) قد يطْرقنَ أسحارا

  5. أما الأحبة ف (القضبان) دونهمُ

  6. ودون لُقْياهمُ فَكٌ وتَقْييدُ


(( القصة منقولة من تويتر ))
السلام عليكم... ( #جرح #) - قصه ..
نورة .. نورٌ أطْفأهُ السجّان !!
القصة الحقيقية لوفاة جدتي .. أرويها بعد عام من وفاتها..
==
نورة .. نورٌ أطْفأهُ السجّان !!
إضاءة : إقرأها - فقط - بأعين أبطالها .. ستكون شريكا في الألم ..
أن يكون لقاؤك بمن تحبّ مرهونا بفراق من تحبّ !!
هذه هي القصة باختصار ..

المكان : الرياض - حي الصحافة - الدور الثاني من منزل الذكرى الحزينة

الزمان : عصر السبت - السادس من شهر جمادى الاخر عام ه

كان يوما عاديّا في دفتر حياة امرأة ثمانينية ، سجادة صلاة حمراء .. عود أراكٍ معقود في ناحيةٍ منها .. قهوة لا ينبغي إلا أن تكون من صنع يدها ومذياع لا يعرف غير محطة رقمها .. من عادة أقرب أبنائها إلى قلبها أن يكون بيتها هو محطته الأولى عند عودته من أي سفر وكان هذا اليوم هو يوم الوصول .. كانت تنتظره بشوق ولهفة .. تستعجل الدقائق ليدخل عليها باب غرفتها مقبلا رأسها ويدها .. يدور في خلدها : ماذا أحضرتَ لي هذه المرة يا إبراهيم !! عوّدها ألا يدخل عليها إلا ويده محمّلة بما يسّر الله .. ملابس .. حلويات .. أي شيء يصلح هدية لأم في عقدها الثامن .. يخصّها بالثمين قبل أبنائه وزوجه .. ظلّت تنتظر .. مكالمة البارحة كانت آخر العهد بصوته .. الدقائق تطول والخوف يجد طريقا إلى قلبها المنهك .. كل شيء يخطئ إلا قلب الأم عندما يتعلق الأمر بفلذة كبدها .. حتى ولو كان هذا الابن رجلا في خمسينيات عمره يملأ الشيب عارضيه ورأسه والدال سابقةٌ لاسمه .. الأم تنتظر في بيتها والحفيد هناك عند بوابة المطار ينتظر وجه سعْدٍ يطل عليه باسما رافعا يده بالتحية من بعيد كما هي عادته عند كل قدوم من سفر .. طال الانتظار هنا وهناك وهمهمات تسري أن هناك أمرا ما يحدث داخل صالة القدوم .. كان قد ورد اتصال منه وهو في الطائرة يخبر أنه قد وصل ، بعد ذلك .. كان الهاتف مغلقا .. الاتصالات تتوالى كلها تريد معلومة واحدة فقط .. هل دخل أو ليس بعد ؟؟ اتصال على ضابط في الجوازات يفيد أن جوازه قد ختم وأنه تجاوز النقطة .. يَفتح جواله لثوانٍ معدودة يتصل سريعا على أحدهم .. ألغوا جميع مواعيدي الليلة ؛ هناك مشكلة في الجمارك !! رسالة مبهمة تبيّنها الساعات القريبة القادمة .. الدقائق تمر بطيئة عليها وعليهم .. وشكٌ لا يريدون له أن يكون يقينا قط .. تجمّعٌ سريع في منزله لمناقشة الأمر ، والأم هناك في بيتها بين دعاء ورجاء .. لم يُخبروها بشيء !! لكنه قلب الأم .. كل دقيقة تمر تجعلهم يوقنون أن ما يدور في أذهانهم من شك يوشك أن يكون حقيقة .. تقترب ساعات الفجر الأولى ولا خبر .. الزوجة وحيدة في غرفتها تدعو .. البنات في غرفتهن وتساؤلات صامتة .. الابن الأكبر إلى بيته بعد ليلة ليلاء .. هل انقضتْ ليلتهم ؟ ليس بعد !!
الساعة الان تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل وطارقٌ يطرقُ الباب .. نعوذ بالله من طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير .. وصدق من قال :

يا نائم الليل مسرورا بأولهِ

إن (المباحث) قد يطْرقنَ أسحارا

وهكذا كانوا .. رهطٌ بلباس مدنيّ وامرأة سوداء موحشٌ لونها تسوء الناظرين .. يُهتك ستر البيت ويُعبثُ بما فيه ويُصادر شيء من أغراضه .. في هذه الأثناء يستيقظ الصغير من نومه فزعا يستقبله حضن أمه لم يعتدْ على زوار الليل .. من هؤلاء ؟؟ تجيبه : شركة نظافة !! يالفؤاد أمك يا صغيري .. لا تريد أن تصعقك بالحقيقة .. بعد انتهاء التفتيش يأتي الإذن بالاتصال .. كان أول سؤال سأله : عسى ما فزّعوكم !! طمأنهم على حاله وسألهم عن أمه المسكينة .. هي بخير لم يأتها خبرٌ عما حصل .. أين أنت الان ؟؟ في عليشة وسيذهبون بي للحاير بعد قليل .. سؤال أخير : ماذا عن الزواج !! يرد باقتضاب : رتّبوا الموضوع كما ترونه مناسبا .. وانتهت المكالمة بهذه الصورة .. من الغد كان لزاما أن تُخبر أمه الخبر .. ولا تسألوا عن سيلٍ جارف من المشاعر .. الدموع ، الدعوات الساخنة ، ظلّت أياما لا تنطِق إلا دعاءً وابتهالا ..
عشرة أيام من غيابه .. موعد الزواج المرتقب .. الفرح الذي أبى إلا أن يكون في صورة حزن .. كان هناك ما يُشبه الوعد لتمكينه من حضور زواج ابنته .. وهكذا استعد الجميع .. أملها الكبير برؤيته جعلها تستعجل الذهاب لبيته .. أخته كذلك .. النساء في البيت والرجال في استراحة قريبة .. مرّ الوقت سريعا تلك الليلة .. يبدو أن لا نيّة لإحضاره .. حدّثنا لاحقا : في تلك الليلة سألني المحقق : تبدو حزينا ؟ أجبته : كيف تريدني أن أفرح وابنتي تتزوج هذه الليلة وأنا لا أستطيع مشاركتها !!
كانت منزوية في ركن من أركان منزله تسأل كل داخلٍ عليها .. هل جاء ؟ أخته كذلك .. تحاول أن تضفي جوا من الفرح والبهجة على عروس باكية وبنيّاتٍ وزوجة ليسوا بأحسن حالا من عروسهم .. ثم لا تلبث أن تهرب إلى غرفة نائية وتغلق الباب ثم تنخرط في موجة بكاء .. دخلتُ عليها وهي كذلك : يا عمّة هوّني عليك .. لا إجابة سوى الدموع .. انتهت ليلة الزواج وانتهى معها أملٌ كان يسكُن أمه برؤيته ..
يمر شهرٌ وشهران وثلاثة وسؤال ممزوج بعبرة كلما شاهدتْ أحد أبناءه : ألن يُخرجوا أبوكم ؟ لا أحد يملك إجابة لهذا التساؤل .. يرنّ هاتفها .. منذ أن غاب عنها لم تكن تتأخر في الرد على أي اتصال .. استعدّي يا جدتي غدا صباحا سنزوره .. كان هذا بعد ستة أشهر من غيابه .. مع الصباح الباكر كان الجميع مستعدا لأول لقاء .. في الطريق كنّا نستطيع سماع دقّات قلبها المتعب .. وصلنا المكان كانت تمشي بصعوبة يسندها أحدنا .. تدخل صالة انتظار الزوار .. دعواتها بصوت مرتفع كانت تسبقها (حيل الله قوي - حيل الله قوي) .. كانت تدعو له وعليهم .. يهمس حفيدها : يمّه اقصري الصوت .. لا تعيره التفاتا وتواصل الدعاء .. في الصالة ، في الباص ، وقبل الدخول ، لم تترك دعاء إلا وذكرته .. اللقاء يقترب الان والقلوب تخفق وأسئلةٌ في الذهن : كيف هو شكله !! هل تغيّر كثيرا !! .. نقترب من غرفة زجاجية في مبنى يسمونه (فندق) داخل الحاير .. أحدنا يمسك يدها والاخرون مع النساء في الخلف .. يدخل الابن الأكبر قبل الجميع يقبل رأسه ويده ويهمس : ترى معنا امي نورة .. يتوجه سريعا للباب ويحدثُ اللقاء .. أنت ابراهيم !! أنت ابراهيم !! كانت تقولها بصوت مختنق باكٍ .. الجميع في بكاء .. أيّ مشهدٍ هذا ، لقاء أم عجوز بابنها المغيّب .. يرد عليها بصوت كلّه حشرجة : ايه أنا ابراهيم .. كان قدّ تغيّر كثيرا .. لحيته التي كان يخضبها قد ابيضّت تماما .. وزنه تناقص إلى ما يقارب النصف .. القميص الذي يرتديه بلونه الرمادي لا يوحي بشيء من الإكرام .. كانت تُمعن النظر إلى وجهه وهي تبكي وكأنها تريد أن تعوّض الفراق .. يهدّئ من روعها .. يُخبرها أن وقته بين صلاة وقراءة قرآن ودعاء ولاشيء آخر .. لم يكونوا حينها قد تكرّموا عليه بأي كتاب .. غير كتاب الله .. أسئلة سريعة عن حال الأبناء والبنات والزوجة .. يتوجّه بالحديث لأمه .. يقول لها : لا عليكِ يا أمي ، لقاء الدنيا لا يعوّل عليه ، اللقاء الحقيقي في الجنة إن شاء الله !! يالله .. من أخبره أن اللقاء الدنيوي سينتهي بعد شهور معدودة .. هي الأخرى ردّت عليه وكأنها تشعر بشيء : يا وليدي اذا متّ خلّهم يطلّعونك تصلّي علي .. كانت كلمتها كفيلة بموجة بكاء تنتاب الجميع .. ودّعته سريعا وكأنها لا تريد لقلبه أن ينفطر حزنا عليها .. وانتهى اللقاء .. انهالت عليها الاتصالات من كل مكان : كيف هو ابنك .. تمتماتٌ يسيرة تنتهي بعبرةٍ ودعاء .. الأيام تمرّ ثقيلة على قلبها .. مازال رجاؤها وأملها بربها ينعش شيئا من روحها ..
ثلاثة أشهر تفصل بين اللقاء الأول والثاني .. هكذا وصلها الخبر : ابراهيم بالمستشفى بيسوّون له عملية !! كان الخبر صادِما لها ومع ذلك كانت تكفكف ما تبقى من دموع .. تأتيها البشرى أن احضروا لزيارته .. الطريق إلى مستشفى (قوى الأمن) ثم انتظار الإذن بالدخول .. السير في سيبٍ طويل صامت يوصلك إلى باب حديدي موصد .. هذه المرة كانت على كرسي متحرك .. لا أستطيع وصف لحظة اللقاء لأنها دخلتْ قبل الجميع ودخل معها أعمامي .. دخلنا غرفة المستشفى كانت تجلس إلى جواره .. الإرهاق يبدو على محيّاه .. علمنا أنه للتو فرغ من العملية كان وجهه شاحبا يبعث على الحزن .. غرفة المستشفى لا تختلف كثيرا عن غرفة السجن .. باب حديدي لا يُفتح إلا من الخارج .. دورة مياهٍ بنصف باب .. وأشياء أخرى .. لم تتحدثْ كثيرا هذه المرة .. كانت تحدّق كثيرا بهذا الوجه الشاحب وتستمع لحديثه ونصحه .. يُطرق الباب ، يدخل خِلسة بلباسهِ الطبيّ .. كان ابن أخته .. فُجع قبل أيام بوفاة ابنه البكر .. يسلم على خاله .. يملأ عينيه برؤيته .. كان يعلم أنه لن يمكث هنا طويلا فأبناؤه وبناته يريدونه .. يعزيه .. أحسن الله عزاءك في مالك يا أنس .. يُوصي إخوته بالصدقة .. بالقران .. بالخدم .. يقول لهم وهي بجواره : لا تبتعدوا عنها فقد يأتي اليوم الذي تفقدونها فيه .. تسمعه فتبكي ويبكون لبكائها .. كانوا متسمّرين أمامه لا يجرؤون على غير الدموع .. ثم حان الوداع .. وياله من موقف .. أُقسم أن ما تقرأونه حصل أمام ناظريّ .. قامت واقفة .. توجّهت تلقاء ابنها وأمسكت رأسه بيديها .. جذبته إليها بكل ما تبقى من قوّتها الواهنة .. أخذتْ تقبله في كل مكان من وجهه كما تقبّل أمٌ طفلها الصغير .. ضجّت الغرفة بالبكاء .. لعل الله قذف في قلبها أنه اللقاء الأخير وهي سليمة .. ودّعناه وانصرفنا معها نسلّي فؤادا أراد الله له أن يُنهك في خريفه ..
الأيام التالية لم تحمل جديدا بالنسبة لها .. كانت تصبر كثيرا .. وكان الداء يتسلل خلسة إلى أحشائها ويدمّر ما تبقى من حياة .. في بادئ الأمر كان يُظنّ أنه عارض ويزول غير أنه لم يكن كذلك .. يزداد الألم يوما بعد يوم ويزداد معه شوق ولهفة وسؤال عن ابنها المغيّب .. تحبّ حي السلام وترتاح هناك ربما لأنها تشمّ فيه رائحة الحبيب .. أبتْ إلا أن يكون تطبيبها في منزل ابنتها بحي السلام .. عمتي ، امرأة من الرعيل الأول نتقرب إلى الله بحبّها .. فُجعت هي الأخرى بأحب إخوتها إلى قلبها وظلت صابرة صامتة .. دخلتُ على جدتي وهي متوسدة .. قبّلتُ الجبين الطاهر .. تعابير الوجه تشي بألم تكتمه في جوفها تواريه عن أبنائها .. تقول لي بكل صدق : يا وليدي كلّمهم يطلّعون ابوك عشان يقرا علي !! قلّهم امه تعبانه تبيه يقرا عليها .. تقولها صادقة والله شاهد .. ايه يا جدتي لو كان الأمر بهذه الصورة لما لبث في السجن .. لاحقا كانت تقضي وقتها بين المستشفى وبيتها وبيت ابنتها .. لا تستطيع أن تتحرّك كثيرا .. الداء يتمكّن منها بصورة مخيفة ويوهن عزيمتها .. زيارة جديدة .. هذه المرة في الحاير .. تقطّع قلبها وهي تحاول الذهاب ولكن لا تستطيع .. المرض يمنعها .. يدخل شهر شعبان من العام هجري .. يقرر الأطباء تدخّلا جراحيا عاجلا .. النتائج غير سارّة .. تهتّك في الأمعاء والتصاقات داخل الأحشاء وورم غير حميد يجد مكانه هناك .. قال الطبيب أن أيامها باتت معدودة وكل شيء بأمر الله .. قال أيضا : تعبها النفسي أثر كثيرا على صحتها .. في غرفة العناية الفائقة نزورها ولا ندري هل تحسّ بنا أم لا .. كلما استيقظت كانت تسأل عنه .. ولا جواب .. بدا وكأنها سلّمت أمرها لربّها وظلّت تنتظر لقاءه .. محاولات من هنا وهناك لتمكينه من زيارتها كلها باءت بالفشل إلا واحدة .. سنأتي به عصر الجمعة الحادي عشر من شهر شعبان .. هكذا قالوا ..
كان الخبر كالبشرى على قلوبنا .. نريد أن تراه ويراها وبعدها يقضي الله أمرا كان مفعولا .. حضر الجميع في المستشفى ، الأبناء والأعمام وأبناؤهم .. الكل بلا استثناء .. كنا نخشى أن يؤتى به على حين غفلة منا .. دعانا هذا إلى تشكيل ما يُشبه المراقبة على جميع أبواب المستشفى .. ننتظر في الأسفل وهي في غرفة العناية في الدور الرابع .. اتفاقٌ من الجميع ألا تُخبر بموعد الزيارة هذه حتى لا يتعلق قلبها .. كنا نخشى أن تلغى في أي وقت .. ونحن في مكاننا يصلنا هذا الخبر من ابنتها التي كانت بجوارها .. الجدّة استيقظت لثوانٍ معدودة وسألت : ما جاء ابراهيم ؟؟ ثم عادت للرقاد - أُقسم أنها لم تكن تعلم بالزيارة وأن هذا ما قالته - يدخل المغرب ولا شيء هناك .. صلاة العشاء في المصلى والانتظار إلى الساعة الثامنة .. المكان يخلو من أي أحد سوى المرضى والممرضين ، وزوار حضروا ليروا من سيزور مريضهم !! انصرف الجميع بعد أن أيقنوا أن لا زيارة اليوم .. لعلها تكون في الغد كما قال الضابط .. خرجتُ لقضاء وقتٍ مع بعض الزملاء ، حكيت لهم ما حصل في المستشفى ، أثناء الحديث يردني اتصال : بسرعة ترى ابوك عند امي نورة !! بلا شعور توجّهت سريعا للمكان اقتربتُ من المستشفى .. أريد أن أراه فقط .. قبل الوصول إلى البوابة أُشاهد بأمّ عيني .. سيارة إسعاف بلا أي ملامح تُحيط بها سياراتٌ جيب مدنية .. توقّفتُ فجأة في وسط الطريق .. كنتُ لا أشك أن سيارة الإسعاف تحمل في داخلها قطعة من فؤادها المكلوم .. زنزانة متنقلة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب .. إذن فات الأوان والموكب يُغادر .. دخلتُ عليها سريعا .. كانت مستيقظة تكتّم آلامها وحسراتها .. ما الذي حدث ؟؟ بصوت واهن تجيب : ابوك جا .. لم تكن في وضع يسمح لها بنقل تفاصيل اللقاء .. أخبرنا لاحقا : أنزلوني من سيارة الإسعاف مقيدا .. أجلسوني على كرسي متحرك توجّهوا بي لقسم العناية الفائقة دخلتُ عليها بقيودي والحمد لله أنها لم تشعر بذلك .. آخر مرة رأيتها كانت في مستشفى (قوى الأمن) قبل سبعة أشهر .. كان اللقاء ساخنا للغاية .. سألتني عن الصلاة .. أجبتُها أنْ صلي على قدر استطاعتك .. قرأتُ عليها ما شاء الله لي .. الرهط الذين على باب الغرفة كانوا يستعجلون العودة .. قلت لها : استعدّي للقاء الله .. ردّت : يا وليدي مستوية عندي !! سألتها سؤالا أخيرا كان سؤال الوداع : يمّه أنتي راضية عني .. أجابت وهي تبكي : يا وليدي كيف ما أرضى عنك وما دخّلنْ مكة إلا أنت - كان والدي كثيرا ما يصطحبها للحج والعمرة - .. لقاء سريع لم يتجاوز خمسا وعشرين دقيقة .. إلا أنه لقاء أخير ..
بعد أيام خرجتْ من المستشفى برغبة منها حيث لا فائدة في العلاج .. لسان حالها : أريد أن يقبض الله روحي وأنا في بيتي .. وهذا ما حصل .. ظلت في بيتها مستلقية على فراشها والألم يفتك بأحشائها ويمزّق أوصالها وهي صابرة محتسبة .. كنّا نرى على وجهها آثار التجلّد والاصطبار .. يدخل رمضان وفؤادها يتقطع لعجزها عن صيامه .. يأتي العيد ولا تشارك أبناءها الفرحة .. لسان حالها فيه :
عيد بأيّة حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة ف (القضبان) دونهمُ

ودون لُقْياهمُ فَكٌ وتَقْييدُ

لم تعدْ تسألنا عنه !! لعله اليقين بوعد الله .. لعلها تذكّرت حديثه لها في الزيارة الأولى يوم أن قال : اللقاء الحقيقي في الجنة .. لعل ما أصابها في خريف عمرها زهّدها في دنيانا التعسة .. ينتهي شوال ويدخل شهر ذي القعدة والحال كما هو .. يحاول ابنها الأكبر إقناعها بالإبر المسكنة وتأبى !! كانت ترجو أن يغفر الله ما تبقى من خطاياها بهذا الألم ..
السادس عشر من هذا الشهر .. زيارةٌ أخرى في سجن الحاير .. وبطبيعة الحال لم تكن معنا .. أخبرناه بوضعها الصحيّ السيء .. قال لي ولأخي الأكبر حرفيا : كونوا بجوارها هذه الأيام فلعل أجلها يكون قريبا - كان يقول هذا الكلام وهو لا يعلم أن أجلها حضر بعد سويعات من كلامه وسبحان مقدر الأقدار - أخبرنا لاحقا أن أحد زملائه عزّاه فيها قبل وفاتها بأشهر في المنام .. أخبرنا كذلك أنه رآها في حديقة غنّاء مع جدّي المتوفى من سنين - انتهت هذه الزيارة بعد وداع طويل .. لم نكن نعلم أننا سنراه بعد ساعات من الان ..
في صبيحة اليوم التالي السابع عشر من شهر ذي القعدة .. اتصال مفاجئ من ابن العمة .. قال بلا مقدمات أو سلام : ماتت !! يا رباه كيف علمت ؟ رد لاهثا : حضر خالي لبيتنا وأخذ أمي وتوجّهوا لحي الصحافة .. أبلغتُ أمي وأخي وانطلقت من فوري للصحافة ودخلت .. هالني ما رأيت .. على اليمين يجلس الأعمام والعمة في مشهدٍ جنائزيٍ مثير .. توجّهتُ سريعا لغرفتها ودخلت .. وهناك رأيتها .. بل رأيت جسدها المسجّى .. أما روحها فكانت تحلّق في فضاء الله .. اقتربتُ أكثر .. ورأيت !! وجه هادئ تحيط به هالة ملائكية مضيئة وجسد موسّدٌ كأنه في نومة هانئة .. نورٌ يشع من الجبين الطاهر وكأنه يقول : أمكم هذه ، لها من اسمها نصيب .. على جنبها الأيمن ويدها تحت خدها الأيمن .. شكلها لا يوحي بالموت أبدا .. إلا أن فؤادها المتعب كان قد توقف عن نبضه قبل لحظات .. حدّثنا من كان إلى جوارها ساعة الاحتضار : كانت هادئة ساكنة مستيقظة لم تكن تتألم أو تئن - كما كانت قبل أيام - سمعتُها تذكر الله وتدعو .. كلمات أخرى كانت تردّدها إلا أني استُحلفتُ على عدم البوح بها !! وفي لحظة السحَر قبل طلوع الفجر بدقائق سكنتْ أنفاسها تماما وأسلمتْ الروح الطاهرة إلى بارئها .. عزّيتُ الموجودين .. يقرر أبو ياسر العمّ الأكبر : سنصلي عليها العصر في الراجحي .. سؤال يأتي : ماذا عن إبراهيم ؟ يحسمها سريعا : سنحاول إخراجه قدر الإمكان وفي حال عدم السماح بخروجه لن نؤخر الصلاة والدفن .. أحسنت يا عمّاه .. إكرام الميت دفنه .. انتشر الخبر سريعا .. الاتصالات من كل مكان ، الكل يسأل : هل سيخرج للصلاة ؟ الله أعلم مازلنا نحاول .. تفاعل الكثير من العلماء والوجهاء وبذلوا ما يستطيعون في الشفاعة بالخروج .. صلينا الظهر بلا رد .. بعد الصلاة يأتي الإذن بالخروج للصلاة والعزاء .. سريعا إلى الحاير لإبلاغه أولا .. ثم إحضاره ..
دخلنا غرفة الضابط . اثنين من أعمامي ، أخي الأكبر وأنا .. التوقيع على أوراق الكفالة ثم الاتصال على القسم الداخلي لإحضاره .. دعاءٌ صامت : اللهم هوّن علينا نقل الخبر .. أقبل من بعيد .. كان يرتدي ثوبا أبيضا كبياض قلبه .. تقاسيم وجهه توحيْ أنه علم بالخبر .. لعله ارتباطٌ روحيّ .. وما أدراكم ، الأرواح جنود مجندة .. دخل الغرفة وقلوبنا تخفق .. وقبل كل شيء : ماتت امي ؟ وكان جوابنا بالدموع أنْ نعم .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. وأحسن الله عزائك .. دمعة صغيرة أبتْ إلا أن تفرّ من عينيه وهو يداريها عن الحاضرين .. سلمنا عليه وعزيناه وعزاه الضباط الذين كانوا في الغرفة .. أنهينا الإجراءات سريعا وانطلقنا .. كان الجميع هناك .. في المغسلة ، العائلة ، الأحباب ، الرجال والنساء .. في الطريق كان يتحدّث عن الصبر والتجلّد .. قال لنا : لا أريد أن يراني الناس بمظهر حزين .. إذا رأوني باكيا سيبكون وإن رأوني متجلدا سيصبرون !! غفر الله لك يا أبي ، ومن يلومك في الحزن وأنت أنت .. يشاء الله أن يخرجك من مقبرة الأحياء إلى مقبرة الأموات .. توسّدها .. تُهيل التراب عليها .. تقلّب بين يديك جسدا لطالما قلّبك وأنت صغير .. لطالما احتضنك وأنت صغير .. يقطع الهواجس اتصال : أريد أن أهاتف الشيخ .. يتلقى العزاء من المتصل ويغلق السماعة .. كان سلمان .. صديق الماضي .. والحاضر ، نقترب من جامع الراجحي .. من بعيد نلمح رجالا يقفون على قارعة الطريق يترقبون الوصول .. يُفتح الباب ، يهجم الناس عليه من كل مكان .. عزاء صامت تخنقه العبرات .. يُفسحون له الطريق إلى مغسلة النساء .. يدخلها مشيّعا بأهل بيتها .. الصمت يحيط بالمكان إلا ما كان من نشيج خافت .. حبس الجميع أنفاسهم في هذه اللحظة .. ماذا تراه سيفعل .. توجه إلى رأسها .. أخذ يقول بصوت تخنقه العبرة وهو ينظر إليها دامعا : طبتِ حيّة وميتة .. طِبتِ حية وميتة .. انفجر الجميع بالبكاء .. أخذ يقبّلها في جبينها .. بدأ يقول للحاضرين : طريق لابد أن نمر فيه جميعا !! يسمع نشيجا بجانبه فيلتفت مغضبا : لا تصدر صوتا بالبكاء .. توجّه للنساء وسلم عليهن .. كنا نسمع أصوات النشيج من بعيد .. عزّاهنّ .. أوصاهنّ بالتصبر والدعاء .. حملنا الجنازة إلى مكان الصلاة وصلينا عليها مع جماعة المسلمين .. بعد الصلاة وضعناها في سيارة عمي وركب إلى جوارها .. قبل الانطلاق يفتح أحدهم الباب ويسلم .. كان ناصر .. رفيق الدرب والمشوار .. ثم انطلقوا .. في المقبرة يضعونها للصلاة .. يؤم المصلين تلبية لرغبتها .. تُحمل على الأكتاف إلى القبر .. ينزل بنفسه إلى قبرها .. يلتفت إلي : سليمان انزل .. نزلتُ سريعا ونزل معي أحد الأقارب .. شرعنا في الدفن .. رأيته يقلّبها بين يديه .. يُدخلها اللحد .. يفكّ أربطة الكفن .. يودّعها الوداع الأخير .. يرى قِماطا أبيضا فلا يرى فيه إلا صورة أمه .. الأم التي كانت حياتها نقيّة كنقاء هذا الكفن .. هل حقا يدفن أمه .. يمر شريط الذكريات سريعا .. كثيرا ما حكى لنا عن طفولته .. عن شبابها .. عن الصحن المستدير الذي تحمله فوق رأسها وتدخل على أبنائها في الملحق لتطعمهم .. عن القرية التي ضمّتْ بين أزقتها امرأة لا تعرف اليأس .. يسمونها (نورة) .. خرجتُ من القبر .. تركته يودّعها كيفما شاء .. ستكون آخر يد تمسّها في الدنيا هي يد ابنها الذي فُجعت فيه .. لو استطاعت أن تنطق في قبرها لما وَسِعها إلا أن تقول : بُني .. لو كنتُ أعلم أن حريتك ستكون مرهونة بوفاتي .. لدعوتُ الله أن يقبضني في ليلتك الأولى من السجن !!
رحمك الله يا (نورة) .. وسقى الله تلك الأيام .. كنتِ مدرسة نتعلم منها الصبر .. العزة .. اليقين بوعد الله .. لن ننسى أيامك الجميلة قبل السجن .. أما معاناة الوداع .. فسيظل التاريخ يحمل ذكرى امرأة عجوز سطرّت قصتها شعارا نحمله للأجيال من بعدنا .. ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .. سنظل نذكر تجربة خاضت غمارها امرأة عجوز كان شعارها قبل الفراق :
لا تسْقنيْ ماء الحياةِ بذِلّةٍ
بل فاسْقنيْ بالعزّ كأس الحنظلِ
باختصار ومع تجاوز الكثير من التفاصيل هذه قصة (نورة) أكتبها للتاريخ وللحقيقة ، لم أبالغ في شيء من وقائعها والله يشهد .. ولا أجد ما يمكن أن يُسلّي هنا إلا قول الله :
(ولا تحسبنّ الله غافلا عمّا يعمل الظالمون ..)
سليمان الناصر
الرياض / حي السلام
/ /
@ss_alnasser


التعليقات (2)
مرفئ ساكن
مرفئ ساكن
الله يرحمها ويغفر لها وجميع اموات المسلمين

ام سدير /555
ام سدير /555
الله يغفر لها ويرحمها
ويفرج هم ولدها يارب
ويفرج عن كل سجين

قصه ستحول حياتك للأفضل بأذن الله
عشيقتها سبب في خسف قبرها